كيف تحولت متعة التقاط الصور السيلفي إلى هاجس تجميلي؟

كيف تحولت متعة التقاط الصور السيلفي إلى هاجس تجميلي؟

في زمن التطورات التكنولوجية المتسارعة والتحديثات الجنونية على الأجهزة الذكية، أصبحت التكنولوجيا متحكمة في معظم مفاصل حياتنا، وامتدت حتى شملت علاقتنا بأنفسنا ونظرتنا إلى ذواتنا، لتفرض نمطاً فنياً كمالياً على الوجوه كما لو أنها لوحة أو قطعة نحتية.

التوثيق بالصورة:

ففي عصر السرعة زادت أهمية الصورة كأداة لإيصال الأفكار والمعلومات بأسهل الطرق وأكثرها تأثيراً وكعنصر تسويقي لا غنى عنه. فبعد أن كانت تتركز أهميتها في تصوير المنتجات والصناعات والأماكن، توسعت لتصل إلى الأشخاص لكنها لم تتوقف عند حد الاهتمام بالتقاط صورة واحدة أو أكثر قليلاً في إحدى المناسبات أو لغرض معين كما كان سابقاً، بل أصبح مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي مضطرين للحصول على صور شخصية لهم بشكل دائم بغرض زيادة التفاعل، بخاصة إذا كانوا من المشاهير أو المؤثرين أو العاملين في أحد الحقول الفنية أو الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب منهم تصوير أنفسهم في معظم نشاطاتهم.

لقد كانت الصور في السابق تقتصر على بعض المناسبات الخاصة والاجتماعية ثم بدأ التدرج ليشمل توثيق معظم اللحظات الشخصية، وحتى تلك اللحظة كان هذا التطور جميلاً. لكن ما يحدث اليوم مبالغ فيه وانغماس من دون وعي بالسلوك الجماعي. فلو يرى كل منا نفسه وهو يترك الجموع ويحاول بجهد التقاط صورة سيلفي له مع تغيير الملامح وزيادة الادعاءات بالسعادة والفرح بحجم مبالغ به وغير مرتبط بالجلسة نفسها، لربما تغير الأمر قليلاً.

وعليه فقد أصبحنا أمام مشكلة تتعلق بالإدراك، وعي بالنفس والمحيط.

متلازمة السيلفي

والآن أصبح للسيلفي (الصورة الملتقطة ذاتياً) يوم خاص يُحتفل فيه وهو 21 يونيو (حزيران)، لما لها من شعبية واستحواذ، فالتصوير في كل مكان والأجهزة الذكية لا تفارق الأيدي، الموبايلات باتجاه الوجه في الشارع في المطعم في السيارة في كل مكان حرفياً، عدا عن الفيديوهات المسجلة بعدسة الموبايل الأمامية، وهذا كله يبرر غاية التوثيق… توثيق اللحظات.

ولكن أليس من المفترض ألا نكون جاهزين دائماً وفي كل المواقف لالتقاط الصور، أقلها على المستوى النفسي والمزاجي، بخاصة عند النساء الطامحات دوماً إلى الظهور بأحسن شكل ممكن، فتكون النتائج غير مرضية، لا سيما في صور “السيلفي”، ومن هنا بدأ الاهتمام بالفلاتر وتوابعها من محسنات الوجوه والألوان والملامح!

صور مشوّهة!

وهنا يجب أن نعرف أن كاميرات الهواتف ما زالت غير مؤهلة لالتقاط صور سيلفي احترافية، فعدساتها العريضة تقوم بعملية تشويه تبدو واضحة جداً كلما كان الشخص أقرب إلى الكاميرا، على عكس تلك الاحترافية التي توفر ميزة العدسات الخاصة لتصوير الوجه. وحتى مع التقدم وتزويد الهواتف الذكية بكاميرات ذات عدسات وزوايا عدة، إضافة إلى برمجيات متطورة تستخدم ميزة الذكاء الاصطناعي وتتعرف إلى تقاسيم الوجه وتفاصيله الدقيقة وتعدل عليه مباشرة، إذ تقوم بتحسينات طبيعية توفر عليك إجراء تعديلات على الصورة بعد الالتقاط، إلا أن غالبية المستخدمين العاديين ما زالوا جاهلين بعمل كل منها ومتى تستخدم ولماذا، وبكيفية تفادي هذا النوع من التشوهات بشكل تجميلي بسيط ومن دون مبالغات.

والسؤال هنا: كم تشبهنا صورنا حقاً؟

لا عيوب

وجوه ملساء بألوان موحدة ودرجة صفاء عالية، والتقاسيم مدروسة ومنحوتة بعناية وبعين النسبة الذهبية. فالفلاتر جعلت المهمة أسهل بكثير، ماذا عن آثار السهر والتعب؟ ماذا عن بعض الخطوط الناعمة على الجبهة؟ ماذا عن لون الوجه الشاحب؟ لا داعي للقلق سنحلها بضغطة صغيرة.

هذه العيوب التي بإمكانها أن تتحدث عنا بصدق، كم مرة ضحكنا وكم فرحنا وأحببنا وحزنا وتعبنا واجتهدنا وكم مرة بكينا، عيوننا التي نغطيها بعدسات ونمحي آثار الخطوط من حولها كان بإمكانها أن تعبر عنا بشكل أصدق، وعيوبنا الشكلية وما تظهره من عيوب نفسية صغيرة تقول من نحن وكيف نختلف عن غيرنا، كيف تغيرت ملامحنا مع مرور الزمن، وكيف صدمنا الحزن مرة فرسم خطاً ناعماً على حدود الخدود حتى الأنف، وخطوط ما بين الأنف والشفاه ستدل على مستوى إدمانك للتدخين، وكل هذا في النهاية أنت… أنت “الحقيقي”.

وهم الكمال

وهنا يبرز “اضطراب dysmorphobia” الذي أصبح منتشراً بشكل واسع جداً وزاد من حجم المشكلة. فمخاوفنا بشأن مظهرنا العام وكيفية ظهورنا، وتركيزنا على عيب أو أكثر فينا وكثرة الانشغال به وتضخيمه والقلق بشأنه، سيتركنا في محاولة دائمة لإخفائها بأي شكل كان، وهذا سيؤدي إلى ممارسات كثيرة غير واعية ستجر ممارسات أخرى، فمن هدف إخفاء العيوب إلى هدف الحصول على وجه يتسم بالكمال.

وهذا التوجه نحو الكمال بدأ يتطور تدريجاً إلى أن أصبح مبالغاً فيه وتضخمت آثاره السلبية، لأن بعد كل تعديل هناك تعديل إضافي، كما أصبح تغيير ملامح الوجه موضة تتبدل كل سنة أو عدة سنوات، وصارت الصور العادية التي كنا نلتقطها بعفوية من خلال كاميرات الديجيتال غير مقبولة من دون تعديلات.

والآن… هل سنعود لنتقبل عيوبنا البسيطة التي كانت تميزنا يوماً ما؟

عيش اللحظة

من جهة أخرى، من المميز أن يجمع الإنسان أرشيفاً يوثق فيه لحظاته الجميلة لاستعادتها لاحقاً وكأنه يعيش تفاصيلها المفرحة مرة أخرى، لكن الأجمل أن يعيشها أولاً.

عيش اللحظة بصدق بدلاً من توثيقها بشكل خادع للذات أولاً ولإرضاء الآخرين ثانياً، والتواجد الفعلي في المكان بدلاً من قضاء الجزء الأكبر من الوقت في محاولة التقاط الصور، والجزء الآخر في النشر ومتابعة تطور المنشور الخاص بها والتفاعل مع المعلقين الذي سيشيدون بجمالك واختياراتك، وسينخدعون في تقدير مدى سعادتك وأنت تجلس في مكان مميز وعيونك تبرق ووجهك يشع سعادة مخطط لها و”مصممة” بشكل ذكي.

والسؤال الآن: ماذا لو تولينا مهمة تجميل اللحظات بعيشها والانغماس فيها بشكل فعلي، بدلاً من ترك هواتفنا الذكية تجملها افتراضياً “فقط”؟

تابعوا أهم الأخبار لحظة بلحظة عبر صفحتنا في الفيسبوك أحلى عالم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.